من بغداد إلى مختبرات فيينا واعتراف أمريكي.. ابتكار عراقي لتغيير نظرة العالم للتوحد

شفق نيوز/ في مختبر بعيد عن صخب المستشفيات، وبين آلاف الصفحات العلمية التي تفكك أسرار الدماغ والمناعة، وُلد أمل جديد لواحد من أكثر الاضطرابات غموضًا في عصرنا: التوحد. د. عادل الصالحي، ليس طبيبًا كما قد يتوقع البعض، لكنه يحمل مفاتيح جديدة لفهم هذا الطيف الواسع. بعقلٍ تشكّل في أروقة جامعة بغداد، ونضج أكاديميًا بين بغداد وفيينا، قاده شغفه العلمي إلى تسجيل براءة اختراع أولية في الولايات المتحدة لعلاج تجريبي يستهدف أنماطًا من التوحد ذات جذور مناعية معقدة.
في هذا الحوار الأول من نوعه، يكشف د. الصالحي لوكالة شفق نيوز، تفاصيل الرحلة التي بدأت من فرضية صغيرة، وتحولت إلى ابتكار يخضع الآن لأعلى معايير التقييم العلمي. ما الذي يميز هذا العلاج؟ ولماذا يُعتبر بارقة أمل لعائلات تعيش بين القلق والرجاء؟ وهل يمكن للعقل الشرق أوسطي أن يترك بصمته في حقل يتصدره الغرب؟نترك الإجابات لصاحب الفكرة، د. عادل الصالحي.
سيرة شخصية عن الدكتور الصالحي:
خريج بكالوريوس آداب في علم النفس من جامعة بغداد، خريج ماجستير علم النفس الإكلينيكي (العيادي/السريري) من الجامعة المستنصرية – بغداد، وكنت الأول على دفعتي.
حاصل على دكتوراه من جامعة سيغموند فرويد في فيينا – النمسا، في علوم العلاج النفسي والعصبي، مع تركيز بحثي على اضطراب طيف التوحد، وقد عادلت شهادتي البكالوريوس والماجستير أكاديميًا لدى جامعة فيينا University of Vienna، وهي من أعرق الجامعات الأوروبية (تأسست عام 1365م)، في تخصص علم النفس الإكلينيكي السريري.
ملاحظة: (تنشر هذه المقابلة بصيغة سؤال وجواب، لإتاحة مساحة سرد واضحة وموسعة للدكتور عادل الصالحي، بما يضمن نقل أفكاره وتوضيح ابتكاره العلمي بدقة وشفافية، بعيدًا عن الاختزال، وبما يواكب حساسية الموضوع وأبعاده البحثية)
- دكتور عادل، بداية نهنئكم على هذا الإنجاز العلمي الكبير. كيف تلقيتم ردود الفعل الأولى بعد الإعلان عن اكتشافكم لعلاج التوحد؟
"أشكر لكم تهنئتكم واهتمامكم. منذ الإعلان عن تسجيل الابتكار العلمي كطلب براءة اختراع لدى مكتب البراءات والعلامات الأمريكي (USPTO)، كانت ردود الفعل مزيجًا بين مشاعر الدعم، والأمل الكبير من عائلات المصابين، وبين بعض حالات سوء الفهم والتأويل، وهو أمر متوقع في القضايا ذات الحساسية المجتمعية والعلمية.
وقد كنت واضحًا جدًا، في كل ما نُشر، أن هذا الابتكار هو علاج تجريبي قيد الدراسة، لم يُعتمد بعد، ولم يُستخدم سريريًا، ولا يُطرح بأي شكل كعلاج بشري متاح حاليًا".
"أؤكد أن ما تم هو تسجيل اختراع مبني على فرضية علمية مدروسة وقابلة للتطبيق، وفق المعايير الدولية لحماية الملكية الفكرية، بهدف تأمين الفكرة قبل الشروع في التجارب العلمية"
"كما لم أروّج للعلاج كمنتج طبي، ولم أزعم حصوله على ترخيص دوائي من أي جهة تنظيمية، بل أكّدت أنه في مرحلة ما قبل السريرية، وهي مرحلة بحثية يُسمح قانونًا خلالها بحماية الابتكار وتكوينه النظري قبل الدخول في التجارب المخبرية"
"هذا التوازن بين الشفافية العلمية والإجراءات القانونية السليمة هو ما نحرص عليه، لحماية المجتمع من أي تسرّع، وكذلك لحماية جهودنا العلمية من التشويه أو الاستغلال".
- حدثنا عن اللحظة التي أدركتم فيها أنكم توصلتم إلى خطوة في إحداث ثورة في علاج التوحد. كيف كانت؟
"بصراحة، لا يمكن تلخيص لحظة الاكتشاف بجملة واحدة، لأنها لم تكن نتيجة لحظة إلهام مفاجئة، بل ثمرة مسار بحثي طويل بدأ قبل أكثر من عامين ونصف، تَمثّل في مراجعة مئات الدراسات عالية الجودة، وربط الأدلة البيولوجية والمناعية والسلوكية في محاولة لفهم التداخلات الدقيقة التي تميّز اضطراب طيف التوحد – خصوصًا في أنماطه ذات الأساس المناعي.
ما توصّلنا إليه هو تركيبة مناعية علمية مبتكرة قابلة للتطبيق التجريبي، تعتمد على محاكاة دقيقة للأنماط البيولوجية الفرعية لدى فئة معيّنة من الأطفال المصابين بالتوحد. هذه الفرضية تم تطويرها وتوثيقها بما يكفي لتقديمها كابتكار جديد قابل للحماية القانونية من خلال براءة اختراع.
لكن من المهم أن أوضح: إدراك قيمة الفكرة لا يعني أنها أصبحت علاجًا جاهزًا، بل إنها أصبحت مؤهلة علميًا للدخول في المسار الصحيح: من الحماية القانونية إلى التجريب المخبري، ثم ما قبل السريري، ثم السريري لاحقًا بإذن الله، وهو ما نعمل عليه الآن ضمن فريق علمي متخصص".
- ما الذي يميز ما توصلتم إليه عن غيره من الأساليب التقليدية في التعامل مع التوحد؟
"الابتكار الذي نعمل عليه لا يُقدَّم كبديل عن كل الأساليب المعروفة، بل كمحاولة علمية جديدة تستهدف جذور اضطراب التوحد لدى فئة معينة من الأطفال، تحديدًا الأنماط ذات الأساس المناعي، والتي أثبتت الأبحاث الحديثة أنها تختلف في آلياتها عن الأنماط الأخرى.
ما يُميّز هذا التوجه هو:
0 أنه لا يقتصر على تعديل السلوك أو التدريب النفسي فقط، بل يسعى لمعالجة الخلل الحيوي المناعي العصبي الداخلي.
0 يعتمد على آليات تنظيم مناعي واستهداف التهاب عصبي مزمن، تم رصده في عدد كبير من حالات ASD.
0 يرتكز على فرضية مثبتة علميًا بأن فئة من الأطفال المصابين يعانون من فرط تفعيل مناعي ذاتي أو مناعي مزمن، قد يكون هو المحفّز للأعراض السلوكية والعصبية.
ونكرر: هذا العلاج لا يُقدم كبديل عام أو نهائي، ولا ينطبق على كل حالات التوحد، ولا يمكن تعميمه حاليًا، بل هو مخصص للبحث في نمط معين محدد بيولوجيًا".
"كما أننا لم نعلن عن نتائج تطبيقه بعد، لأنه ما يزال في المرحلة ما قبل السريرية، وفقًا للمعايير العلمية والأخلاقية المتّبعة عالميًا".
- هل يمكن أن تشرح لنا بشكل مبسط طبيعة هذا العلاج؟ هل هو دوائي، جراحي، جيني، أم يعتمد على تقنية جديدة؟
"العلاج الذي تم تطوير فكرته وتسجيله كابتكار علمي هو علاج تجريبي من النوع المناعي العصبي، ويُصنّف ضمن النهج البيولوجي التنظيمي وليس ضمن الأساليب الجراحية أو الجينية أو الدوائية التقليدية.
وهو مبني على فرضية علمية مدروسة تستهدف آلية بيولوجية معقّدة يُعتقد أنها تلعب دورًا محوريًا لدى بعض الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد.
ما يُميز هذا الابتكار هو كونه منظومة علاجية جديدة قابلة للتطوير ضمن مراحل التجريب العلمي، وليس منتجًا نهائيًا أو دواءً جاهزًا.
ولذلك، نؤكد مجددًا أن العلاج ما يزال في مرحلة ما قبل السريرية، ولم يُستخدم على البشر بعد، ولم يحصل على أي ترخيص طبي، وهو ما نلتزم به التزامًا تامًا في كل تصريح إعلامي أو علمي".
- ما التحديات العلمية التي واجهتكم خلال رحلة البحث والتطوير لهذا العلاج؟
"رحلة الوصول إلى هذا الابتكار كانت مليئة بالتحديات على عدة مستويات:
1. تحدي فهم التوحد كنظام بيولوجي معقد:
اضطراب طيف التوحد ليس اضطرابًا واحدًا بسيطًا، بل هو طيف واسع من الحالات التي تختلف جذورها البيولوجية بين طفل وآخر، مما يجعل من الصعب بناء فرضية علاجية واحدة تنطبق على الجميع. وكان علينا تركيز جهودنا على نمط محدد مدعوم بالأدلة البحثية، وخاصة الأنماط ذات الارتباط المناعي.
2. تحدي البحث في مصادر علمية متعددة التخصصات:
الدراسة تطلّبت الجمع بين علوم المناعة والأعصاب والسلوك، ما فرض علينا الرجوع إلى مئات الدراسات الموثوقة عالية التصنيف، وربط نتائجها بمنهجية تحليلية دقيقة على مدار أكثر من عامين ونصف.
3. تحديات قانونية وإجرائية في حماية الفكرة:
قبل الإعلان عن أي نتائج أو تفاصيل، كان من الضروري تسجيل الابتكار وفق القوانين الدولية، لتأمين الحماية القانونية والملكية الفكرية، وتجنّب أي محاولات للنسخ أو الاستغلال التجاري المبكر.
4. تحديات تقنية ولوجستية في الانتقال إلى المرحلة التالية:
نحن الآن في مرحلة تشكيل فريق بحثي متعدد التخصصات لإجراء التجارب ما قبل السريرية، وهي مرحلة تتطلب تنظيمًا دقيقًا وموارد علمية كبيرة.
رغم ذلك، نؤمن أن كل خطوة واجهتنا لم تكن عائقًا، بل كانت جزءًا من البناء العلمي السليم لأي اكتشاف واعد".
- كيف حصلتم على براءة الاختراع؟ وما الدول التي اعترفت بها حتى الآن؟
"ما حصلنا عليه حتى الآن هو طلب براءة اختراع مؤقتة رسميًا (Provisional Patent Application) تم إيداعه وتسجيله بتاريخ 13/04/2025 لدى مكتب البراءات والعلامات التجارية الأمريكي (USPTO)، تحت الرقم: 63/788,011.
هذا الإجراء يمنحنا رسميًا:
• أسبقية قانونية دولية لحماية الابتكار
• حق استخدام وصف “Patent Pending”
• حماية لمدة 12 شهرًا ريثما نكمل تطوير النسخة النهائية ونتقدم بطلب البراءة الكامل (Non-Provisional).
ووفقًا لقانون 35 U.S.C. §111(b) الأمريكي، فإن الطلب المؤقت يُعد إجراءً قانونيًا معترفًا به دوليًا لحماية الابتكارات قبل الدخول في المراحل التطبيقية أو النشر العلمي، ويُستخدم على نطاق واسع من قبل الباحثين والجامعات والشركات.
أما عن الدول: فإن تسجيل الطلب في الولايات المتحدة يمنحنا أسبقية دولية، ويُتيح لنا تقديم نفس البراءة مستقبلاً في دول أخرى عبر اتفاقيات مثل معاهدة التعاون بشأن البراءات (PCT)، وهو ما نخطط له عند الانتقال للمرحلة التالية بإذن الله.
نحن ملتزمون باتباع المسار القانوني الكامل خطوة بخطوة، مع الشفافية التامة أمام المجتمع العلمي والجمهور".
- هل العلاج مناسب لجميع الأعمار والمراحل، أم يستهدف فئات محددة من المصابين بالتوحد؟
"هذا سؤال مهم جدًا، وأشكر طرحه.
من الضروري التوضيح أن الابتكار الذي نقوم بتطويره لا يُطرح كعلاج شامل لكل حالات التوحد، بل تم تصميمه نظريًا ليكون مناسبًا لفئة فرعية فقط من المصابين بطيف التوحد، وتحديدًا أولئك الذين تظهر لديهم مؤشرات مناعية وبيولوجية معينة، والتي ترتبط بما يُعرف علميًا بـ “immune-related autism subtypes”.
كما أنه لم تتم تجربته على البشر حتى الآن، وبالتالي فإن أي حديث عن الفئات المناسبة له ما يزال ضمن التحليل النظري والمخططات الأولية فقط.
ومع ذلك، ووفقًا للمحاكاة البيولوجية التي أُجريت، فإن الفرضية الحالية ترجّح إمكانية أن يكون العلاج – في حال أثبت فعاليته لاحقًا – أكثر استجابة في الفئة العمرية بين 4 إلى 12 عامًا، وذلك بسبب:
• مرونة الجهاز العصبي في هذه المرحلة (neuroplasticity)
• حساسية الجهاز المناعي القابلة للتعديل
• وسرعة التفاعل مع المداخلات البيولوجية مقارنةً بالفئات الأكبر سنًا.
ولا يُمكن استخدامه دون استكمال المسار الكامل للبحث العلمي والتجارب المخبريّة والسريرية.
نحن الآن بصدد مرحلة ما قبل السريرية، والتي ستساعدنا – بإذن الله – على تحديد مدى أمان الفكرة وجدواها، قبل التوسع في التجارب أو الحديث عن الفئات المستفيدة بدقة".
- ما هي الخطط المستقبلية لنشر هذا العلاج عالميًا؟ وهل هناك تعاون مع مؤسسات أو جامعات دولية؟
"خطتنا المستقبلية تعتمد على مسار علمي تدريجي، يراعي الضوابط القانونية والعلمية المعمول بها محليًا ودوليًا:
1. المرحلة الحالية – ما قبل السريرية (Preclinical Phase):
نحن الآن بصدد تشكيل فريق علمي وطني متخصص من خيرة الباحثين العراقيين في تخصصات متعددة، لتنفيذ التجارب المخبرية الأولية على نماذج حيوية، وفق معايير أخلاقية وبحثية دقيقة.
2. المرحلة التالية – السريرية (Clinical Trials):
في حال أثبتت المرحلة الأولى نتائج إيجابية، ستتم دراسة إمكانية الانتقال إلى التجارب السريرية بإشراف المؤسسات الصحية والبحثية الرسمية داخل العراق، وبالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، وضمن السياق القانوني المعتمد محليًا.
3. التعاون الخارجي:
أي تعاون دولي سيتم لاحقًا، وفقط في حال وجود حاجة تقنية أو علمية لا تتوفر محليًا، مع الحفاظ التام على الملكية الفكرية العراقية، واحترام السيادة البحثية الوطنية.
نؤكد أن كل خطوة من هذه المراحل ستتم بإشراف علمي وضمن أطر مؤسساتية معروفة، وبشكل شفاف، وبعيدًا عن أي استثمار تجاري أو استعجال غير مدروس".
- برأيكم، كيف سيغير هذا العلاج نظرة العالم لاضطراب التوحد؟ وهل يمكن أن يؤدي إلى شفاء تام؟
"نحن حريصون على أن نبني خطابنا العلمي على الواقعية والاحترام الكامل لمستوى تطور المعرفة في هذا المجال.
اضطراب طيف التوحد يُعد من أكثر الاضطرابات تعقيدًا، وليس له سبب واحد ولا نمط بيولوجي واحد، لذلك لا يمكن – من الناحية العلمية – الادعاء بإمكانية وجود “علاج واحد يشفي الجميع”.
لكن، الابتكار الذي نعمل عليه يركّز على فئة فرعية محددة جدًا من حالات التوحد، وهي الحالات ذات الأساس المناعي البيولوجي، والتي تم رصد أنماطها في عدد من الدراسات العالمية.
إذا أثبت هذا العلاج فعاليته وأمانه في هذه الفئة، فقد يُسهم بإذن الله في تحسين الأعراض بشكل جوهري لدى بعض الأطفال، لا سيما في المراحل المبكرة من العمر، أو أولئك الذين لديهم علامات استجابة مناعية حيوية.
لكننا نرفض تمامًا تقديم أي وعود مسبقة، ونُؤكد أن كل نتائجنا الحالية ما تزال ضمن الفرضيات العلمية التي تحتاج لإثبات صارم عبر مراحل البحث المتقدمة.
نحن لا نعد بالشفاء التام، بل نسعى إلى تطوير تدخل نوعي قد يُفتح منه باب أمل لفئة محددة، وهو بحد ذاته هدف إنساني وعلمي كبير".
- ما رسالتكم للعلماء والباحثين الشباب الذين يحلمون بصنع تغيير في مجال الطب؟
"رسالتي لهم من القلب:
لا تنتظروا أن يُمنح لكم الاعتراف، بل اصنعوه بأنفسكم، خطوة بخطوة، بعلمٍ حقيقي، وصبر طويل، وأخلاقيات لا تتغير مهما كانت الضغوط.
البحث العلمي ليس امتيازًا لطرف دون آخر، ولا حكرًا على جنسية أو جهة أو تخصص معين. من يملك الفكرة، والإصرار، والنية الصادقة لخدمة الإنسان… فهو قادر على أن يُحدث فرقًا.
قد تواجهون التشكيك، الاستخفاف، وربما حتى الإساءة… ولكن هذه ليست إشارات فشل، بل دلائل أنك بدأت تقترب من شيء له قيمة.
وأقول للشباب تحديدًا: العلم اليوم لم يعد ينتظر المختبر فقط، بل يحتاج إلى عقل يقظ، قادر على الربط بين التخصصات، وعلى السعي خلف الأسئلة التي لم يُجب عنها بعد.
قد لا تحمل لقب “طبيب”، أو "صيدلي" أو لا تعمل في مركز دولي، لكنك إن امتلكت أدوات البحث، وحافظت على النزاهة والاحترام، فمكانك محفوظ في منظومة التغيير".