ألوان على رماد الحروب: سيرة الفن التشكيلي الكوردي

شفق نيوز/ ذات يوم، في حمّام شعبي في السليمانية، انحنى رسامون أمام جدران رطبة، يرسمون أولى لوحات الفن الحديث في كوردستان. لم تكن تلك البداية معلنة، لكنها ستصبح شرارة.
بعد عقود، وبين أنقاض الحروب، وفي قاعات معارض صغيرة، ظل الفنانون الكورد يخطّون حكاية شعب لم يُتح له أن يسردها بالكلمات.
في كوردستان، لا تُعلّق اللوحات على الجدران فحسب بل على جدران الذاكرة، فهذه البقعة المحصورة بين حدود إيران وتركيا وسوريا، عرفت القرن العشرين بوصفه مسرحاً دائماً للصراعات: نزاعات عرقية، مواجهات قومية، وحروب لم تهدأ حتى اليوم. هنا، صار الرسم أكثر من فن، صار لغة مقاومة.
في زمنٍ كانت فيه الألوان والزخارف تمثّل الفن التقليدي السائد، جاءت موجات الحداثة محمّلةً هذه المرة لا بالوعود فقط، بل أيضاً بالمدافع. كوردستان، التي نشأت من رحم تقسيمات عرقية وجغرافية فرضتها السياسة العالمية، تحوّلت إلى ساحة لصراع الهويات.
كان على الفن في كوردستان أن يتكيّف مع هذا المناخ المتقلّب.فما بدأ كتقليدٍ لأساليب الرسم الغربي سرعان ما تطوّر إلى لغة بصرية تُحاول التقاط أنفاس شعب يبحث عن ذاته بين طيّات الحرب والمنفى.
بغداد: حيث بدأ الحلم
كان على الكثير من فناني كوردستان العراق أن يعبروا أولاً إلى بغداد، حيث تأسس معهد بغداد للفنون الجميلة عام 1940. هناك، تحت وبشكل متتابع إشراف رواد مثل نوري مصطفى بهجت وفائق حسن وخالد جواد سليم، تعلّم جيل كامل فنون الرسم، النحت، والإخراج.
لكن أحلام هؤلاء الفنانين اصطدمت بزمن مضطرب. ما بدأ كتجربة فنية غنية، سرعان ما حُصر في خدمة الدعاية السياسية. ومع تعاقب الحروب والأنظمة، صار الجسد البشري المجزأ، والوجه المطموس، رمزين دائمين في الفن العراقي الحديث.
أعمال صادق كويش الفراجي، مثل لا يمكنك محو آثار الحرب، جسّدت هذا التحول. في لوحته، يظهر رجل بلا وجه، صورة حية لذاكرة عراقية مثقلة بالمحو. أما محمد الشمري، فاستعان بنماذج خشبية بلا وجوه لتصوير عبث القمع في أبو غريب.
وفي خلفية هذا المشهد، بقي الفنانون الكورد يتعلمون لكن بأعين تراقب وطنهم من بعيد.
السليمانية وأربيل: البدايات الأولى
بين الجبال، كانت مدن كوردستان تحاول أن تجد صوتها الفني. ففي السليمانية، التي أسسها البابانيون عام 1784، ظهرت إرهاصات الرسم الحديث قبل أكثر من 90 عاماً. حينها، زارها فنانون إيرانيون حاملين أدواتهم إلى حمّام صورة، حيث بدؤوا بالرسم على الجدران، النوافذ والأسقف. ما بدأ كفضول محلي، تحوّل إلى حركة فنية صغيرة: حديقة باخى ميلت أصبحت ملتقى للفنانين. وفي أول معرض بمدرسة للبنات، اصطدم الفن الكوردي الحديث بأول جمهور واسع.
في أربيل، ظلت قلعتها التاريخية خلفية لصعود أسماء مثل جواد رسول ناجي، إسكندر جامباز، ومنير قصاب.أما عثمان بك في السليمانية، فكان من أوائل من حوّل الريشة إلى سلاح توثيق: في عمله معركة دربندى بازيان (1919)، نرى كيف حاول الفن أن يُدوّن الأحداث قبل أن تبتلعها الذاكرة الشفوية.
لاحقاً، قدّم فنانون في كركوك مثل عزيز سالم وأحمد كاكه سور دفعاً جديداً للحركة التشكيلية. أما حسين مكرياني، فقد خطّ صفحة جديدة كأول رسام كوردي يعمل في الجرافيك، وأول من نشر كتاباً فنياً في المنطقة.
لم يكن هذا الحراك الفني في كوردستان معزولاً عن صدمة الحروب. مع تصاعد القمع خصوصاً بعد الحركات القومية واليسارية في الستينيات والسبعينيات اضطر العديد من الفنانين إلى الرحيل.
في المنفى، ولدت لغة بصرية جديدة. في لندن، اختار وليد سيتي، المولود في دهوك عام 1954، أن يجعل من المنفى مرآة لهوية كوردية متحوّلة. في سلسلة الأحجار الكريمة، تحوّلت الحجارة والجبال إلى رموز للتاريخ الكوردي وصموده. في أعماله، تعكس العناصر الهندسية، المكعب، الحلقة، اللولب، دورة الحياة والموت. قلعة أربيل، الجبال والأنهار، حاضرة كجسور بين الماضي والحاضر. وكأن الفن بات الحبل الذي يشدّ هوية الكورد وسط دوامة العولمة.
في الداخل، استمر فنانو كوردستان في رسم جراحهم. رستم آغالا اختار السريالية ليجسّد طبقات الحزن الشعبي. في لوحته الأنفال، تُروى المأساة من خلال مشهد بسيط: رجل عجوز يسترجع ذكرياته وسط مرج دامٍ.
يقول آغالا: "كانت بلادنا جميلة حين حدثت الأنفال وهذا يعني أن المأساة قد تتكرر." لوحاته غارقة في رمزية دقيقة: طاووس بلا ريش، سماء حمراء، جبال قاحلة — كأنها سرد بصري للذاكرة الجماعية.
أما في طهران، حيث لجأ باسم الرسام، فباتت الوجوه المشوشة والأجساد المشوهة لغة أساسية. من مشارك في الحركات اليسارية، إلى فنان يبحث عن إنسانية شاملة، راح يرسم لوحات تكعيبية تعبّر عن وحشية التعذيب والمحو.
عمران سليمان، القادم من قرية شاريا، هو صوت جيل شاب. في أعماله، الألوان الفوضوية تجسّد حزن الموت، القتل، والتشريد الذي لا ينتهي. بالنسبة له، كل صورة، كل منظر، هو حكاية تُروى.
الريشة كشهادة
وسط هذا المشهد، يظل الفن الكوردي التشكيلي موزعاً بين قطبين: أحدهما يسعى إلى استكشاف الهوية الثقافية الكوردية جبال، فولكلور، تراث. والآخر لا يملّ من تفكيك نتائج الحرب: المنفى، النزوح، الجسد المشوه.
في غاليري زاموا بالسليمانية، تتلاقى هذه المسارات. هناك، تُعرض أعمال تحكي عن تاريخ دموي، وفي الوقت ذاته، عن مجتمع يحاول أن يرسم نفسه من جديد.
من بغداد إلى جبال كوردستان، من لندن إلى طهران، ظل الفن الكوردي المعاصر مرآةً لرحلة طويلة بين الجرح والأمل. لم يعد الأسلوب الفني تعبيري، سريالي، تكعيبي هو ما يهم. الأهم هو: كيف ينظر هؤلاء الفنانون إلى مجتمعهم، وإلى وطن يعيش بين فصول متكررة من الحلم والانكسار.
في زمن تُغتال فيه الذاكرة، تبقى الريشة ربما الشاهد الأخير.
پروين بابايي- ترجمة وتحرير: وكالة شفق نيوز